الحديث الخامس
"إبطال المنكرات والبدع"
عن أُمِّ المُؤمِنينَ أُم عَبد الله عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ ". رواه البخاري ومسلم ،وفي رواية لمسلم:" من عمل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"( ).
ترجمة الراوي
عائشة بنت أبي بكر الصديق – أم المؤمنين- كانت من أعلم النساء وأفقههن، تزوجها رسول الله بمكة وهي بنت ست سنين ،ودخل بها في شوال سنة اثنتين من الهجرة وهي بنت تسع سنين ،وتوفي عنها وعمرها ثماني عشرة سنة وعاشت بعده أربعين سنة وتوفيت سنة 57 هـ ( ).
المعنى العام
أن العبادة لا تصح إلا إذا جمعت أمرين: الإخلاص والمتابعة للرسول ، والمتابعة أخذت من هذا الحديث اللذي هو أصل من أصول الإسلام ، دل عليه قوله تعالى: وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه ( )
فقد وضع لنا فيه رسول الله قاعدة دينية نعرف من خلالها المردود والمقبول ،فأخبرنا أن كل من أوجد شيئاً لم يكن في ديننا وعمل أي عمل سواء كان عبادة أو كان معاملة أو غير ذلك ليس عليه أمر الله ورسوله فهو مردود عليه حتى وإن صدر عن إخلاص وذلك لقول الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء ( )، وقال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ).
المباحث العربية
من أحدث في أمرنا: من أوجد شيئا لم يكن ،والإحداث في أمر النبي هو اختراع شيء في دينه مما لا يوجد في الكتاب والسنة .
ما ليس منه: أي ما لم يشرعه الله ورسوله .
فهو رد : أي فهو مردود عليه حتى وإن صدر عن إخلاص ، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول كما يقال هذا خلق الله أي مخلوقاته ،وهذا نسج فلان أي منسوجة، وحاصل معناه أنه باطل غير معتد به.
الشرح والبيان
هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع، لأن الدليل يتركب من مقدمتين والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه ، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه ، لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، فهذا العمل مردود ، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث ،وإنما يقع النزاع في الأولى .
ومفهومه أن من عمل عملاً عليه أمر الشرع فهو صحيح ، مثل أن يقال في الوضوء بالنية. هذا عليه أمر الشرع ، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح . فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها نزاع ، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع ، لكن هذا الثاني لا يوجد ، فإذا حديث الباب نصف أدلة الشرع والله أعلم ( ).
إن قال قائل: لو أحدثت شيئا أصله من الشريعة لكن جعلته على صفة معينة لم يأت بها الدين ، فهل يكون مردوداً أولاً؟
الجواب:
يكون مردودا مثل ما أحدثه بعض الناس من العبادات والأذكار والأخلاق وما أشبهها فهي مردودة.
وليعلم أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشريعة في أمور ستة : سببه وجنسه، وقدره ، وكيفيته، وزمانه ومكانه.
فإذا لم يوافق الشريعة في هذه الأمور الستة فهو باطل مردود ، لأنه إحداث في دين الله ما ليس منه.
أولا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في سببه: وذلك بأن يفعل الإنسان عبادة لسبب لم يجعله الله تعالى سببا: مثل أن يصلي ركعتين كلما دخل بيته ويتخذها سنة، فهذا مردود ، مع أن الصلاة أصلها مشروع ، لكن لما قرنها بسبب لم يكن سببا شرعيا صارت مردودة .
ثانيا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في الجنس ، فلو تعبد لله عبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة ، مثال ذلك: لو أن أحد ضحى بفرس ، فإن ذلك مردود عليه ، لأنه مخالف للشريعة في الجنس ، إذ إن الأضاحي إنما تكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر ، والغنم.
ثالثا : أن يكون العمل موافقا للشريعة في القدر: فلو تعبد شخص لله عز وجل بقدر زائد على الشريعة لم يقبل منه ، ومثاله : رجل توضأ أربع مرات أي غسل كل عضو أربع مرات ، فالرابعة لا تقبل، لأنها زائدة على ما جاءت به الشريعة، وقد جاء في الحديث أن النبي توضأ ثلاثا وقال : " من زاد على ذلك فقد أساء وتعدى وظلم" ( ).
رابعا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في الكيفية فلو عمل شخص عملا يتعبد به لله وخالف الشريعة في كيفيته ، لم يقبل منه ، وعمله مردود عليه . ومثاله: لو أن رجلا صلى وسجد قبل أن يركع فصلاته باطلة مردودة لأنها لم توافق الشريعة في الكيفية.
خامسا: أن يكون العمل موافقا للشريعة في الزمان : فلو صلى صلاة قبل دخول وقتها فالصلاة غير مقبولة لأنها في زمن غير ما حدده الشرع .
سادسا: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في المكان : فلو أن أحدا اعتكف في غير المسجد بأن يكون قد اعتكف في البيت ، فإن اعتكافه لا يصح لأنه لم يوافق الشرع في مكان الاعتكاف ، فالاعتكاف محله المساجد .
فلابد من الانتباه لهذه الأصول الستة والتطبيق عليها ( ) .
رواية مسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " قوله من عمل أعم من اللفظ الأول وهو قوله : " من أحدث " فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المترتبة عليها ( ) .
منطوق الحديث : انه إذا لم يكن عليه أمر الله ورسوله فهو مردود ، وهذا في العبادات لاشك فيه ، لان الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل على مشروعيتها، أما غير العبادات فالأصل فيها الحل سواء من الأعيان ، أو من الأعمال فهاتان قاعدتان مفيدتان وعليه نقول أن العبادات على ثلاثة أقسام:
الأول: ما علمنا أن الشرع شرعه من العبادات ، فيكون مشروعا.
الثاني: ما علمنا أن الشرع نهى عنه من العبادات ، فهذا يكون ممنوعا.
الثالث: ما لم نعلم عنه من العبادات ، فهو ممنوع .
أما المعاملات والأعيان فنقول: هي ثلاثة أقسام أيضاً :
الأول: ما علمنا أن الشرع أذن فيه فهو مباح : مثل أكل النبي من حمر الوحش.
الثاني: ما علمنا أن الشرع نهى عنه كذات الناب من السباع وهذا ممنوع.
الثالث: ما لم نعلم عنه ، فهذا مباح لأن الأصل في غير العبادات الإباحة ( ).
الفوائد
1. تحريم إحداث شيء في دين الله ولو عن حسن قصد ، ولو كان القلب يرق لذلك ويقبل عليه ، لأن هذا من عمل الشيطان.
2. رد المحدثات وأن النهي يقتضي الفساد ، لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها.
3. أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمور لقوله:" ليس عليه أمرنا " والمراد به: أمر الدين .
4. أن الصلح الفاسد منتقض ، والمأخوذ عليه مستحق الرد.