الحديث الأول
" إنما الأعمال بالنيات"
عَنْ أَمِير المُؤمِنِين أَبِي حَفْص عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: " إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ" ( ).
رواه أمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن برد ربه البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري ، في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة.
ترجمة الراوي
عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزيز بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن غالب القرشي العدوي ( أبو حفص ) أمير المؤمنين.
كان سفير قريش إلى القبائل في الجاهلية ، وكان إسلامه فتحا عليهم ، وفرجا لهم من الضيق ، وكان إسلامه سنة ست من البعثة .
هاجر إلى المدينة جهرا على أعين من قريش ، وحضر المشاهد كلها مع الرسول .
بويع بالخلافة سنة 13 هـ في عهد أبو بكر الصديق ، وقد فتحت في عهده الفتوحات العظيمة .
استشهد سنة 23هـ ، بعد أن طعنه أبو لؤلؤة المجوسي وهو يصلي صلاة الصبح ( ).
المباحث العربية
سمعت: من سمعت الشيء سمعا وسماعة والسمع سمع الإنسان فيكون واحدا وجمعا قال الله تعالى : خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( ) ، ويجمع على أسماع وجمع القلة اسمع ، وكلمة ( سمعت ) دليل على أنه أخذه من النبي بلا واسطة.
الأعمال: جمع عمل وهو مصدر عمل يعمل عملا والتركيب يدل على فعل يفعل. ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق ،وأعمال الجوارح .
بالنيات : جمع نية وهي : القصد .وشرعا: العزم على فعل العبادة تقربا إلى الله تعالى ومحلها القلب ،فهي عمل قلبي ولا تعلق للجوارح بها . أي كل عمل بنيته .
وقال الخوبي كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعده أو الاتقاء لوعيده .
وإنما لكل امرئ: أي لكل إنسان ما نواه.
امرئ: أي الرجل ، يقال مرء وامرؤ ، ومنه قول رؤية لطائفة رآهم : أين يريد المرؤون ".
هجرته: بكسر الهاء على وزن فعلة من الهجر وهو ضد الوصل ثم غلب ذلك على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية ، ويقال الهجرة والترك ويراد بها هنا ترك الوطن والانتقال إلى غيره في الشرع: مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة وطلب إقامة الدين ، وفي الحقيقة مفارقة ما يكرهه الله تعالى إلى ما يحبه ومن ذلك سمي الذين تركوا توطن مكة وتحولوا إلى المدينة من الصحابة بالمهاجرين لذلك .
إلى دنيا : بضم الدال على وزن ( فعلى ) مقصورة غير منونة ، والضم فيه أشهر وحكى ابن قتيبة وغيره كسر الدال ، ويجمع على دنى ككبر جمع كبرى والنسبة إليها دنيوى ودنييي بقلب الواو ياء فتصير ثلاث آيات ، وهي اسم لهذه الحياة لبعد الآخرة عنها.
يصيبها: من أصاب يصيب إصابة والمراد بالإصابة : الحصول.
ينكحها: أي يتزوجها .
المعنى العام
إن مما تفضل الله به على رسوله محمد وميزه عن جميع خلقه بأن آتاه جوامع الكلم ، ففي هذا الحديث كلمات قلائل حملت معاني تزن ما تحمله الأرض من ثقائل وأكد من خلالها أساس الأعمال ، ومنبع الأفعال فالنية التي محلها القلب هي أساس العمل ، والعمل يحاسب عليه الإنسان بحسب النية الآمرة له ، و بالتالي فإن الأعمال الظاهرة قد تخالف النية فلا يحاسب الإنسان إلا بما نوى .
ثم يضرب لنا رسول الله مثلا على ذلك ليكتمل مفهوم العبارة ويتضح مقصود كلامه فقال : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . أي أن من كانت نيته في الهجرة بأي كان نوعها إلى الله ورسوله فإن أجره يكمل ويقع بحسب نيته الصالحة فتكون هجرته إلي الله ورسوله ، أما من هاجر لسبب دنيوي أو لامرأة يتزوجها فأن حسابه يقع ويحصل بحسب نيته الغافلة البعيدة عن الله .
وهذا الحديث لم يروه عن رسول الله إلا عمر مع أهميته لكن له شواهد في القران والسنة . ففي القران يقول الله تعالى : وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ ( ) فهذه نية .
وقوله تعالى : مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ( ) وهذه نية.
وقال النبي لسعد بن أبي وقاص : " واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في في امرأتك" ، فقوله تبتغي بها وجه الله فهذه نية ، فالمهم أن معنى الحديث ثابت بالقران والسنة . ولفظ الحديث انفرد به عمر لكن تلقته الأمة بالقبول التام حتى إن البخاري رحمه الله صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث .
وقوله : ( روه أماما المحدثين ...... الخ ) ، أي صحيح البخاري وصحيح مسلم وهما أصح الكتب المصنفة في علم الحديث .
ولهذا قال بعض المحدثين : إن ما اتفقا عليه لا يفيد الظن فقط بل يفيد العلم فالحديث إذا صحيح يفيد العلم اليقيني ، لكنه ليس يقينيا بالعقل وإنما هو يقيني بالنظر لثبوته عن النبي .
الشرح والبيان
مسائل وأحكام
المسألة الأولى:
قوله : " إنما الأعمال النيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى"
هاتان الجملتان هل هما بمعنى واحد ، أم مختلفتان ؟
الجواب:
يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التوكيد ومعنى التأسيس: أن الثانية لها معنى مستقل ، ومعنى التوكيد : أن الثانية بمعنى الأولى . و للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة رأيان ، أولهما : أن الجملتين بمعنى واحد ، فقد قال النبي " إنما الأعمال بالنيات " وأكد ذلك بقوله : " وإنما لكل امرئ ما نوى" الرأي الثاني : أن الثانية غير الأولى ، والكلام من باب التأسيس لا من باب التوكيد.
والقاعدة:
أنه دار الأمر بين كون الكلام تأسيسا ، وأن نجعل الثاني غير الأول إلا أنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في ذلك تكرار يحتاج إلى أن نعرف السبب.
والصواب:
إن الثانية غير الأولى فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل ، والثانية باعتبار المنوي له وهو المعمول له ، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا ؟ ويدل على هذا ما فرعه عليه الصلاة والسلام في قوله : " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله " وعلى هذا يبقى الكلام لا تكرار فيه ( ).
جاءت كلمة ( نية ) في هذه الرواية على صورة جمع فقال : " النيات ،ومعظم الروايات وقعت مفردة ( النية ) .
فما سبب اختلاف الروايات ؟ !
إن وجه إفرادها جاء لأسباب منها لأن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها ، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له و اختلاف الروايات يرجع إلى جواز رواية الحديث بالمعنى ( ).
المسألة الثانية:
ما المقصود من النية الواردة في الحديث ؟
الجواب :
تمييز العادات من العبادات ، وتمييز العبادات بعضها من بعض.
ومثال تمييز العادات من العبادات الرجلان أولهما يأكل الطعام شهوة فقط ، وثانيهما يأكل الطعام امتثالا لأمر الله عز وجل في قوله تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( ) ، أكل الثاني عبادة ، والأول عادة.
ولهذا قال بعض أهل العلم عبادات أهل الغفلة عادات وعادات أهل اليقظة عبادات .
مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي ويذهب على العادة . وعادات أهل اليقظة عبادات مثاله: من يأكل امتثالا لأمر الله ، يريد بقاء نفسه ،ويريد التكفف عن الناس ، فيكون ذلك عبادة .
وتتميز العبادات عن بعضها من بعض مثاله :
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع ، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة فالعملان تميزا بالنية ، هذا نفل وهذا واجب ، وعلى هذا فقس .
إذاً المقصود بالنية : تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة ، أو تمييز العبادات من العبادات ( ).
المسألة الثالثة:
من أراد القيام بعبادة ما ، هل يجب عليه أن ينطق بالنية ؟ وإذا كانت الإجابة
بـ ( لا) فلماذا ينطق الملبي بالنية ويقول : لبيك اللهم عمرة ، ولبيك اللهم حجاً؟!
الجواب :
النية محلها القلب ولا ينطق بها إطلاقا ، لأن التعبد يكون لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ولم يرد عن النبي ولاعن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفظون بالنية ولهذا فالنطق بها سرا أو جهرا بدعة ينهى عنها ،أما قول الملبي فلا يعد نطقا بالنية ، بل هو من إظهار شعيرة النسك ولهذا قال العلماء : ( إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة ، فإذا لم تلبَّ لم ينعقد الإحرام ( ).
المسألة الرابعة :
هل الهجرة واجبة أم سنة؟
الجواب:
إن الهجرة واجبة على كل مؤمن لاستطيع إظهار دينه في بلد الكفر فلا يتم إسلامه إلا بالهجرة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كهجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة أو من مكة إلى المدينة أما إذا كان مِن مَن يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلنه ولا يجد من يمنعه فهي سنة .
بعد موت النبي هل يمكن أن نهاجر إليه ؟
الجواب :
أما شخصه فلا ولذلك لا يهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول لأنه تحت الثرى ، وأما الهجرة إلى سنته وشرعه فهذا ما جاء الحث عليه وذلك مثل : الذهاب إلى بلد لنصرة شريعة الرسول والذود عنها ، فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين والهجرة إلى رسول الله لشخصه وشريعته حال حياته ، وبعد مماته إلى شريعته فقط ، نظير هذا قوله تعالى :﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ ( ).
إلى الله دائما والى الرسول نفسه في حياته ، والى سنته بعد وفاته فمن ذهب من بلد إلى بلد ليتعلم الحديث فهذا هجرته إلى الله ورسوله ، ومن هاجر إلى بلد امرأة يتزوجها بأن خطبها وقالت: لا أتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي فهجرته إلى ما هاجر إليه ( ).
المسألة الخامسة:
الأعمال تقتضي عاملين ، والتقدير: الأعمال الصادرة من المكلفين ، وعلى هذا هل تخرج أعمال الكفار ؟!
الجواب:
الظاهر الإخراج ، لأن المراد بالأعمال العبادة ، وهي لا تصح من الكافر وإن كان مخاطباً بها معاقبا على تركها.
المسألة السادسة:
هل النية ركن أو شرط ؟
الجواب:
المرجع أن إيجادها ذكرا في أول العمل ركن ، واستصحابها حكما بمعنى أن لا يأتي بمنافٍ شرعاً شرط ، وقال الطيبي : كلام الشارع محمول على بيان الشرع ، لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان ، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم ، إلا من قبل الشارع ، فيتعين الحمل على ما يفيد.
وإن تعيين المنوي شرط ، فلو كان على إنسان صلاة مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة ،بل يشترط أن ينوي كونها ظهراً أو غيرها.
هل يحتاج في مثل هذا تعيين العدد؟!
فيه بحث. والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم .
المسألة السابعة:
هل يحصل الثواب لمن عمل عملاً صالحاً ولم ينوه؟
الجواب:
النية تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها تتردد بين العبادة والعادة وذلك بالنظر إلى أصل الوضع ، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا ، ومن ثم قال الغزالي حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب ، لأن خير من حركة اللسان بالغيبة ، بل هو خير من السكوت مطلقا ،وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب ويؤيده قوله :"في بضع أحدكم صدقة" ثم قال في الجواب عن قولهم:" أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر" : " أرأيت لو وضعها في حرام" ( ).
وفي المقابل/ هل تلتزم النية في المتروك بحيث يقع العقاب بتركها؟
الجواب:
إن الترك المجرد لا ثواب فيه ، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس فمن لم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفاً من الله تعالى ( ).
المسألة الثامنة:
ما السبب في ذكر المرأة مع الدنيا والمرأة جزء من الدنيا ؟
الجواب:
يحتمل أن كون السبب من وجهين:
أحدهما: أنه جاء أن السبب هذا الحديث أن رجلا هاجر ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فقيل له : مهاجر أم قيس.
والثاني: أنه للتنبيه على زيادة التحذير من ذلك ، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيها على مزيته . والله أعلم ( ).
الفوائد
1. أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث ، وكثرة فوائده وصحته ، قال الشافعي وآخرون : هو ثلث الإسلام ، وقال الشافعي : يدخل في سبعين بابا من الفقه، وقال آخرون: هو ربع الإسلام.
2. هذا الحديث فيه ردا على المرجئة القائلة: بعدم افتقار الإيمان إلا الأعمال وان الإيمان تصديق بالقلب فقط.
3. الحث على الإخلاص لله عز وجل ، لأن النبي قسم الناس إلى قسمين:
قسم : أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة.
وقسم : بالعكس ، وهذا يعني الحث على الإخلاص لله عز وجل.
سن تعليم رسول الله وذل: بتنويع اللام وتقسيمه ، لأنه قال:" وإنما الأعمال بالنيات" وهذا للعمل " وإنما لكل امرئ ما نوى وهذا للمعمول له هذا أولا.
والثاني : تقسيم الهجرة إلى قسمين: شرعية وغير شرعية لذلك ينبغي للمعلم ألا يسرد المسائل على الطالب سردا لأن هذا ينسى، بل عليه أن يجعله في صورة سهلة وقريبة من المتداول.
4. قرن الرسول مع الله تعالى بالواو ، ولم يقل : ثم رسوله ، وذلك لأن ما يعلق بالشريعة فيعبر عنه بالواو ، لأن ما صدر عن رسول الله من الشرع كالذي صدر من الله ، وما ما يتعلق بالأمور الكونية فلا يجوز أن يقرن مع الله أحدا بالواولأن كل شيء تحت إرادة الله تعالى ومشيئته.
5. إن الهجرة من الأعمال الصالحة لأنها يقصد بها الله ورسوله فهي بذلك من صور التقرب إلى الله، والتقرب إلى الله عبادة من أفضل العبادات.